الخط الفاصل بين الصحفي وكاري حنكو

0

24ميديا:بقلم نسيم السعيدي

 الأكيد أن هناك خطا رفيعا بين الصحفي الجاد المشبع بأخلاقيات المهنة، والصحافي المرتزق ( كاري حنكو ) وكل من زاغ عن تمثل الأهداف النبيلة لمهنة المتاعب، يعتبر زائغا عن جادة الصواب وشاذا عن السرب والشاذ لا يقاس عليه.

ليس الصحفي آلة تصوير ينحصر دورها في تخليد لحظة عابرة في صورة، وليس جهاز تسجيل أو إرسال صور وأصوات المقررين، ولا يقتصر دوره على الإخبار البحث بالأحداث والوقائع لأن الصحفي إنسان حقيقي له أرصدته التربوية والمعرفية والثقافية المتعددة الأبعاد، وليس إنسانا آليا يمكن برمجته على نقل صور الأحداث والوقائع متقطعة من سياقها، ومنقطعة عن ذاكرتها وتاريخها والأحداث والوقائع الأخرى ذات الصلة بها، ويستحيل وجود صحفي يجسد الانعكاس الآلي لأن الصحفي موقف ورؤية وموقع بالضرورة، سواء أعلن عن ذلك أو أخفاه، ولا يمكن الحديث عن الوعي أو عدمه في هذا الإطار. ووحدهم أساتذة المعهد العالي للإعلام والاتصال ممن لم يمارسوا المهنة قط، وبعض من يرغبون في تحويل الصحفيين إلى آلة دعاية عمياء تتغنى بمناقبهم، يستطيعون أن يتخيلوا صحفيا حرفيا بلا ذاكرة ولا موقف، يقوم بدور الإخبار ولا شيء غير الإخبار، فالصحفي الحقيقي بطبيعة الحال مثقف يشتغل في قطاع أطلق عليه فلاسفة فراكنفورت ( أدورنو وهوركيمير ) إسم الصناعات الثقافية، في نص مرجعي أساسي صدر في الخمسينيات بالولايات المتحدة، ولم يترجم إلى الفرنسية إلا في بداية السبعينات، ولذلك فإن دوره لا ينحصر في مهمته الأولى المثمتلة في الإخبار بما حدث بالجواب على الأسئلة الست الكلاسيكية، وإنما تمتد إلى إنارته عبر استرجاع خلفياته التاريخية وتوضيح مختلف أبعاده الراهنة والمستقبلية، مع بقائه خلال ذلك، وهنا يكمن القاسم المشترك بينه وبين فئات المثقفين الأخرى، حريصا على إنتاج بتلك الإضافة التي تحدث عنها لوسيان غولدمان ( علم اجتماع الرواية ) التي تجعل منه،مصرا على التقدم سواء في الأوساط الميالة إلى التقدم أو الأوساط المحافظة وإذا ما حاد عن ذلك فإنه يفقد الصفة والميزة ويصير جزءا من الكم المهمل ولأن دور الصحفي يتجاوز دور المخبر ( بالمعنى الصحفي وليس البوليسي ) ولأنه منتج للقيمة المضافة، باعتباره مثقفا فإنه من الطبيعي، ومن الضروري أيضا، أن يبقى حريصا على المسافة النقدية التي تمكنه من تحاشي الانحشار في الجمهور أو السقوط في الغوغائية، ومن البديهي كذلك أن يكون متشبثا بالحرية ومناضلا من أجل توسيع مجال ممارستها، وأن يقاوم بكل ما أوتي المحاولات الهادفة إلى تدجينه وإخضاعه للرقابة الذاتية وللاستجابة الشرطية وبالأخص منها محاولات أجهزة البوليس والمخبرين والعملاء الظاهرين والمستترين وراء الأقنعة، لأن الحرية، أو بالأحرى الحريات، شرط وجود وليس وسيلة أو غاية بالنسبة إليه فحسب، ودفاعه عنها هو دفاع عن وجوده ونفسه.

وفي مرحلة من قبيل المرحلة التي يمر منها المغرب اليوم، والتي يسميها الفاعلون السياسيون بمرحلة الانتقال الديموقراطي فإن دور الصحفي أن يستعمل أولئك الفاعلين لتهيء الشروط اللازمة لإيصال ذلك الانتقال إلى محطة الديموقراطية الحقة، التي لا يمكن الوصول إليها بالمغرب كما هو واضح لمن لا يميل إلى إخفاء الرأس بالرمال إلا بواسطة فصل حقيقي للسلط، وإقامة دولة المؤسسات بشكل واضح والقطع مع التباسات الممارسات المخزنية المولدة للحجز والحجر، لأنه بغير ذلك الاستعجال المفروض أن تشارك فيه مختلف فئات المثقفين ومنظمات المجتمع المدني النظيفة، سيبقى هناك ميل إلى إطالة عمر مرحلة الانتقال بكل التباساتها، بل وسيوجد من يسعى إلى إخضاعها للتآكل لإعادة عقرب الساعة المغربية إلى الوراء، وهذا ما نلمسه اليوم قبل الغذ، حيث تتحرك آليات الأجهزة والإدارة لمصادرة بعض الاصلاحات، أو لاستيعابها، ويمارس في نفس الوقت نوع من التطويق للحقل السياسي والصحفي والثقافي المغربي، وتفتيته لتضييق أفق الرهان الديموقراطي. فالصحفي في هذه المرحلة ليس مطالبا بتغطية هذا الحدث أو ذاك بشكل يرضي هؤلاء أو أولئك، إلا من رضي أن يكري حنكو. ولكنه مطالب باستنهاض وعيه النقدي وشجاعته الأدبية لقول الحقيقة التي كان برتولد بريخت قد أكد أنها لا تنال القبول ولا تعامل بالرفق في أحد نصوصها الرائعة ولتعيين أسباب الحجز في واقعنا وتحديد المسؤوليات وتسمية الأسماء بمسمياتها إلى لف ودوران وألغاز مستعصية الحل على النخب والجماهير على حد سواء، لأن زمن اللف والدوران قد مضى وانقضى وصارت الصيغ الغامضة والملتبسة مصدر ردود أفعال لدى العموم لا تخدم لا المصداقية ولا الديموقراطية في شيء، لأنها تشوش على الحقائق بدل أن تضيئها وتوضحها وتجعلها في متناول الجميع وبذلك يستطيع الصحفي أن يحقق ذلك التوازن الخلاق بين الحرية التي سلفت الإشارة إلى أنها شرط وجود بالنسبة للصحفي والصحافة وبين أخلاقيات المهنة وأخلاق الصحفي ممتهنها، وبذلك يمكن الإرتقاء بالأداء المهني ويغتني الحقل الصحفي بتعددية حقيقية تقوم على أساس تجارب صحفية متعددة تتمثل الواقع المغربي ومهنة الصحافة بشكل مختلف ومجدد للبركة الآسنة، ومما لا شك فيه أن تزايد الصحف الجهوية والوطنية المستقلة قد أحدث أثرا مهما وإيجابيا في حقلنا الصحفي كيفما كانت نظرة هؤلاء وأولئك إليها،وقد تكون بداية لخلخلة بنية كيفما كان تقييمنا لمختلف العناصر المكونة لها في أفق إحلال بنية مغايرة تكون أكثر ملاءمة للمستقبل الديموقراطي الذي يتطلع إليه المغاربة رغم كل شيء

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.