السلمي.. و”السلمية”
لا مجال للهزل في مواضع الجد، لكن المشهد يكاد يتحول هزلياً على مسرح السياسة في مصر كلما وقع حادث، أو اتُّخذ إجراء، أو صدر قرار، أو طُرح اقتراح، أو تمت الدعوة إلى حوار حول موضوع ما، أو حتى مر وقت من دون وقوع أي متغير… في كل تلك الحالات يبدأ الجميع العراك، وتحتار في تفسير مواقف بعض الأشخاص والجهات، كما ستدرك أن مواقف أشخاص أو جهات أخرى توافقت مع مبادئها. لكن الحالة تذكرك بالمشهد الشهير المتكرر في الأفلام المصرية حين يدب خلاف بين اثنين في حفل صاخب، ويبدآن العراك، فتشهد كل من في الحفل يضرب بعضهم بعضاً، رغم أن الخلاف بدأ بين اثنين لا علاقة للباقين بهما، وينتهي المشهد عادةً حين يضرب أحدهم بمقعد في المصباح لتنطفئ الأنوار على الجميع، تطبيقاً للمقولة المصرية الشهيرة: «كرسي في الكلوب» التي تعني أن أحدهم ضرب المقعد بالمصباح ليعيش كل الموجودين في المكان في الظلام.
عموماً لا يمكن إخفاء مدى إحباط «النخب الثورية» في مصر في المرحلة الراهنة، وإن اختلفت أسباب ذلك الإحباط بحسب الانتماءات والأمنيات، فالليبراليون محبطون لأن جموع الشعب تخلت عن الثورة وصارت من أهل «الكنبة» أي تفضل، وفقاً للتعبير المصري، الجلوس على «الكنبة» في المنزل و «الفرجة» على المشهد السياسي من دون المشاركة فيه، كما أن رموز النخبة الليبرالية محبطون لكون الثورة لم تكتمل، فهم يرون بقايا النظام (الفلول) ما زالوا في مواقعهم، كما أن الرئيس المخلوع لم يدخل السجن ويعيش في جناح خاص في مستشفى عسكري، ولم يتخذ الجيش إجراءات تضمن عدم مشاركة «الفلول» في الحياة السياسية مستقبلاً، ومن بين أسباب إحباط الليبراليين أيضا هذا الوجود الكثيف للإسلاميين على المسرح السياسي بعد الثورة، وتوقع فوزهم بغالبية المقاعد في الانتخابات البرلمانية المقبلة، وكذلك تمسُّك الجيش بالبقاء على رأس السلطة حتى نهاية العام المقبل تقريباً، وفشل تسويق صيغة «المجلس الرئاسي المدني» التي نادوا بها ورفضها الجيش والإسلاميون.
وأتت الوثيقة التي أطلق عليها اسم نائب رئيس الوزراء الدكتور علي السلمي، لتزيد من إحباط النخبة الليبرالية، باعتبار أن فيها بنوداً تمنح العسكر وضعاً متميزاً في المستقبل رغم ما في الوثيقة من بنود تحقق مطالب الليبراليين، بوضع قيود على قدرة الإسلاميين على التحكم بمواد الدستور والحيلولة دون صياغة بنود تؤدي إلى أسلمة مصر، أو الانقلاب على الدستور في المستقبل.
وثيقة السلمي نفسها مثلت مجالاً لإحباط النخبة الثورية للإسلاميين، إذ رفض رموزهم ما اعتبروه «وصاية على خيارات الشعب» سواء في شأن تشكيل الهيئة التأسيسية التي ستضع الدستور أو منح الجيش ميزات سياسية تجعله بعيداً من الرقابة أو يستطيع التأثير في العمل السياسي، وهم (الإسلاميون) مصرون على حق البرلمان المقبل في اختيار أعضاء الهيئة التأسيسية التي ستضع بنود الدستور. ولا تمثل باقي أسباب الإحباط لدى النخبة الثورية الليبرالية قلقاً كبيراً بالنسبة الى نظرائهم من الإسلاميين، إذ يسود الاعتقاد بأن ما جرى في تونس سيتكرر في مصر، وأن مستقبل الحكم سيكون للإسلاميين سواء جرى إعداد الدستور أولاً أو ثانياً، فالشعب سيمنح الإسلاميين الغالبية في أي نتيجة! وهو توقعٌ انعكس في إصرار الإسلاميين على أن يكون للبرلمان المقبل وحده اليد العليا في تأسيس الدستور.
المشهد الآن يعكس حال الاستقطاب بعد الثورة: الإسلاميون يرفضون أي وثيقة تضع قيوداً على البرلمان المقبل في تشكيل الهيئة التأسيسية أو تكفل مدنية الدولة في الدستور الجديد، وقوى أخرى بينها الليبراليون واليساريون والناصريون وأعداد من شباب الثورة تضغط للمطالبة برحيل المجلس العسكري بسرعة وضمان عدم تحكم الإسلاميين في البلاد مستقبلاً، وعسكر متهم بالتلكؤ أو التواطؤ لأسباب معروفة ولا تلقى سياساتهم واقتراحاتهم القبول من الطرفين المتنافسين. وهناك في خلفية المسرح شعب يخشى أن ينتهي الأمر بـ «كرسي في الكلوب» يقذف به أي طرف من أطراف اللعبة السياسية فيغلف الظلام البلاد!
ستبقى معركة الدستور هي الأكثر حدة على المسرح السياسي المصري وستصل الذروة بعد الانتخابات البرلمانية المقرر أن تبدأ في يوم 28 الجاري وتنتهي في الأسبوع الأخير من آذار (مارس) المقبل وعندها سينتظر الجميع في مصر من سيطلق «الكرسي ليحطم «الكلوب»؟. واللافت أن وثيقة السلمي جعلت بعضهم يتراجع عن مواقفه في الحفاظ على «سلمية» الثورة ويطلق عبارات تحذيرية أو «تهديدية»، ما يعني أن الفترة المتبقية من الآن وحتى الشروع في إجراءات إعداد الدستور تتطلب من كل أطراف المشهد السياسي العمل على الوصول إلى توافق قبل أن تظلم على الجميع.
* نقلا عن “الحياة” اللندنية